المشاركات الشائعة

الثلاثاء، أكتوبر 18، 2011

مكانة علم التصوف بين العلوم وحكمة


 :
بعد أن ذكرنا وبينَّا  تعريف التصوف وبينَّا موضوعه وثمرته وغايته ومقصده وحاصل ذلك كله هو تزكية النفس وتطهير القلب من الدنس والتحلي بالأخلاق الفاضلة والتخلي عن الأخلاق الرذيلة وهذا هو مراد الشريعة السمحاء وهذا مطلوب من كل مسلم يدين بالإسلام ويؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام .  نستخلص من هذا أن علم التصوف بهذا المعنى وبهذا المقصد هو من أجلَّ العلوم التي ينبغي على كل مسلم أن يدخل فيه وهو فرض وواجب على كل مسلم ومسلمة وإليك قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) رواة البخاري في كتاب الإيمان .
وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ) أخرجه مسلم في صحيحه .
 ويقول الله تعالى ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم ) .
واليك بعض أقوال العلماء والصالحين في هذا :
·   يقو ل الشيخ أحمد زرُّوق رحمه الله تعالى : نسبة التصوف من الدين نسبة الروح من الجسد لأنة مقام الإحسان ولا معنى له سوى ذلك .
·        وقال السيوطي رحمه الله : نسبة التصوف من العلوم كعلم البيان من النحو يعني هو كمال فيها ومحسن لها .
·   وقال الإمام مالك رحمه الله : من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق , ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق , ومن جمع بينهما فقد تحقق . من حاشية العلامة على العدوي على شرح الإمام الزرقاني على متن العزبة في الفقه المالكي وشرح عين العلم وزين الحلم للإمام ملا علي قاري
·   قال حجة الإسلام الغزالي : الدخول مع الصوفية فرض عين إذ لا يخلو احد من عيب إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن خلال ما بيناه يتضح بوضوح كوضوح الشمس في رابعة النهار أن علم التصوف بالمعنى الصحيح هو فرض على كل مسلم بل ولا غنى لكل مسلم يريد الله عن علم التصوف فكلنا بحاجة لتصفية القلب وتزكية النفس والوصول إلى الله .
مكانته في الإسلام وتاريخ نشأته
اعلم أخي أن الذي جاءنا من التشريع في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله علية وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 
أولاً : قسم يتعلق بالعقيدة والتوحيد :
 والآيات والأحاديث التي جاءتنا في هذا القسم كثيرة جداً وتشمل كل آية وحديث يتكلم في موضوع الإيمان وأركانه وصفات الإلوهية والربوبية والموت وملحقاته والروح والإيمان بالله والملائكة والرسل والكتب السماوية واليوم الآخر والقدر خيره وشره وكل الغيبيات وقد سمي هذا العلم ( علم العقيدة _ التوحيد الكلام )
ثانيا : قسم يتعلق بأعمال المكلف :
ويشتمل على علاقته مع نفسه ومع غيره ومع ربه جل وعلا والآيات والأحاديث التي جاءتنا في هذا القسم كثيرة جداً وتشمل كل آية وحديث يتكلم في موضوع الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمندوب والمباح ويشمل جميع العبادات والمعاملات والحدود والجنايات والأحوال الشخصية والبيوع والزراعة وأركان الإسلام والحكم والقضاء وغيره وقد سمي هذا العلم ( علم الفقه وأصول الفقه )
ثالثاً: قسم يتعلق بنفس المكلف :
 من حيث تزكيتها من كل الصفات الذميمة السيئة وتحليتها بالصفات الحميدة والآيات والأحاديث التي جاءتنا في هذا القسم كثيرة جداً وتشمل كل آية وحديث يتكلم عن الجانب الأخلاقي والآداب الإسلامية قال عليه الصلاة والسلام ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
وهذه الأقسام الثلاثة  كلها تتجلى في حديث جبريل عليه السلام الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهيئة رجل ليُعلم الصحابة دينهم فسأل عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان وكل واحد من هؤلاء يُمثل قسم من العلوم التي ذكرناها ويظهر هذا في
 فتوى الإمام الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله تعالى فقد سُئل عن أول من أسس التصوف وهل هو بوحي سماوي ؟ فأجاب :  أما أول من أسس الطريقة فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي , إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد مابينها واحداً واحداً دينا بقوله :  هذا جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم ، فالإسلام طاعة وعبادة ,  والإيمان نور وعقيدة ,  والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ثم قال السيد محمد صديق الغماري : فإنه كما في الحديث عبارة عن الأركان الثلاثة فمن أخل بهذا المقام ( الإحسان ) الذي هو الطريقة , فدينه ناقص بلا شك لتركه ركناً من أركانه . فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان بعد تصحيح الإسلام والإيمان . الانتصار لطرق الصوفية ص 6 
والقسم الثالث هو القسم الذي يقوم عليه علم التصوف ولو رجعت إلى تاريخ هذه الأمة الفاضلة لوجدت أن العلماء الأفاضل رضي الله عنهم قد تخصصوا في كل العلوم وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله علية وسلم فتميز أبو بكر عن سواه بحلمه وخلقه وكرمه وعبادته وإيمانه , وتميز عمر بعدله ,  وتميز عثمان بحياته ,  وتميز علي بقضائه وعلمه ,  وتميز زيد بالفرائض ,  وتميز معاذ بن جبل بالحلال والحرام ,  وابن عباس بالعلم ,  وابن مسعود بالقرآن ,  وأبو عبيدة أمين الأمة ,  وخالد بن الوليد بجهاده ,  وكذلك سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة ,  وعبد الله بن عمرو بن العاص بعبادته ,  وأبو الدرداء وأبو ذر الغفاري بالزهد ,  وأبو هريرة برواية الحديث الشريف إلى ماهنالك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين ثم توسعت الأمصار الإسلامية وكبرت رقعة الدولة وكثر المسلمون وكثر العلماء وتخصص التابعون ومن جاء بعدهم بأصناف العلوم فنشأ علم النحو , وعلم الفقه ,  وعلم التوحيد , والأصول ,  والتفسير , والحديث , والمنطق , ومصطلح الحديث , والمواريث . فتخصص البعض بعلوم الفقه وأصوله كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث بن سعد والشعبي وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم أجمعين ,  وتخصص البعض بعلم الحديث كمالك والأمام أحمد ويحيي بن معين والبخاري ومسلم والترمذي وأبو داوود والنسائي وابن ماجة والبيهقي والدار قطني رضي الله عنهم ,  وتخصص البعض بعلوم الكلام والتوحيد والفلسفة وتنوعت العلوم وانتشرت وكان من أهم العلوم التي انتشرت وتخصص بها البعض هو علم الأخلاق والتزكية وأحوال النفس والزهد والرقائق .  وكما كان ابن مسعود معلم للقران وله مدرسته وكذلك ابن عمر وابن عباس وبقية الصحابة كذلك كان لعبد الله بن رواحة وأبو ذر وأبو الدرداء وأبو هريرة مدارسهم في الزهد الذي نشروه بين الناس فأخذه عنهم الحسن البصري , وعروة بن الزبير,  وأويس القرني ,  ثم إبراهيم بن ادم ,  والفضيل بن عياض , والجنيد البغدادي , والشبلي , وسري السقطي ,  وذو النون المصري .  وهؤلاء هم الذين أسسوا علم التصوف فهو علم كبقية العلوم له أصوله وله أسسه وقواعده وهو نابع من الكتاب والسنة فهو كما قلنا القسم الثالث من علوم الشريعة وهذه هي حقيقته بغض النظر عن ما دخل فيه من بدع وأكدار ومخالفات , المهم أن نشأته وأصوله صحيحة وفق الكتاب والسنة . فالصحابة وإن لم يتَّسموا باسم المتصوفة فقد كانوا صوفيين بأفعالهم وأقوالهم .
 واسمع إلى قول ابن خلدون في مقدمته ص 329 : وهذا العلم ـ يعني التصوف ـ من العلوم الحادثة في الملة وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية وأصلها العكوف على العبادة ,  والانقطاع إلى الله تعالى , والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها ,  والزهد في مايقبل علية الجمهور من لذة ومال وجاه , والإنفراد عن الخلق ,  والخلوة للعبادة ,  وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية
وذكر في كشف الظنون أن أول من سمي بالصوفي أبو هاشم الصوفي المتوفى سنة خمسين ومائة
 وأورد صاحب كشف الظنون في حديثه عن علم التصوف في الصفحة 414 كلاماً عن الأمام القشيري قال فيه : اعلموا أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَتَسمَّ أفاضلهم بتسمية علم سوى صحبة رسول الله عليه الصلاة والسلام , إذ لا أفضلية فوقها فقيل , لهم الصحابة ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ـ ممن لهم شدة عناية بأمر الدين ـ الزهاد والعباد ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق ادَّعوا أن فيهم زهاداً ,  فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله سبحانه وتعالى ,  الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف ,  واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المأتين من الهجرة  .
من كل ما ذكرنا من نصوص يتبين لنا أن التصوف ليس بعلم مبتدع ولا مستحدث كما يدَّعي من أنكر التصوف بل هو علم شريف جليل بل يكاد يكون أجَّل العلوم بعد التوحيد الخالص لله وليس علم مستقى من أصول رهبانية ويهودية ونصرانية وشعوذة هندية كما يزعم من زعم يريدون تشويه التصوف والصوفية لإرضاء أهواءهم ورغباتهم الشخصية ومن أراد الحقيقة اهتدى إليها بإذن الله تعالى .

ليست هناك تعليقات: