المشاركات الشائعة

نظرة المستشرقين للإصلاح والتَّجديد في الإسلام


مُقَدِّمّة:
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين، سيِّدنا ونبيّنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فختم الله تعالى رسالاته السّماويّة إلى الأرض بالإسلام، وجعله كاملاً وشاملاً لأمر الدنيا والآخرة. وقد حفظ سبحانه وتعالى المصدرين الأساسين لهذا الدّين (القرآن الكريم والسُّـنَّة النَّبويّة) من التّحريف والتّزييف، وعليه فإنَّ الإسلام ـ في أصوله وأركانه ومبادئه ـ لا يحتاج إطلاقاً إلى إصلاح ولا يناله تجديد، وأمَّا الإصلاح والتَّجديد الذي حصل في بعض الفترات في تاريخ الأُمَّة الإسلاميّة فقد كان إصلاحاً وتجديداً ضمن إطار الشَّريعة الإسلاميّة، منضبطاً ومحكوماً بتعاليم الكتاب والسُّـنَّة، وقد استلزمه واقع الأُمَّة، واقتضته مصلحتها.
غير أنَّ المستشرقين لهم اتجاه مغاير، يفسّرون به الإصلاح والتَّجديد في الإسلام، فلهم فهمهم وأهدافهم وأساليبهم التي يسلكونها لتحقيق غايتهم، فقد كُلِّف عامتهم بالبحث في هذا الموضوع قديماً وحديثاً.
إذاً فإنَّ هذه الدّراسة تهدف إلى التّطرُّق إلى آرائهم في الموضوع المذكور آنفاً، وتناقش نظرتهم في الإصلاح والتَّجديد في الإسلام، وأهدافهم وأساليبهم التي انتهجوها في دراساتهم.
مفهوم الإصلاح والتَّجديد بين المستشرقين والمسلمين:
أوّلاً: الإصلاح:
في بيان معنى كلمة (صَلُح)، ذكر "المعجم الوجيز" أنَّها تعني:
(زال عنه الفساد)( )، فالإصلاح إذاً يُطلب دائماً لدرء فسادٍ ما. وعليه، فإنَّ إطلاق المستشرقين لمصطلح: (إصلاح الإسلام)! يُقْصَد منه التَّطاول والتَّعدي على حُرْمة القرآن الكريم والسُّـنَّة النَّبويّة، نقداً لتعاليمها المقدسة، وتبديلاً وتغييراً تبعاً لأهداف البشر( ).
إنَّ هذا يعني في الحقيقة الرِّدّة والكفر بالإسلام، وهذا ما يرجوه عامّة المستشرقين للمسلمين؛ أي أَنْ ينقلبوا على تعاليم دينهم، ويساعدونهم في البعد عن الالتزام بتعاليم أديانهم.
يقول "كرومر": "إنَّ الإسلام إذا أُصلح ـ حسب أهواء بعض المستشرقين ـ فلن يعود إسلاماً"( ). والعبارة صحيحة، وهي تكشف بوضوح الرَّغبة الشَّديدة لتحريف الإسلام.
ولهذا، فالإسلام يمنع ابتداءً منعاً باتاً أيّة محاولة من شأنها أَنْ تعبث بآيات القرآن الكريم أو سنة الرَّسول  تحت ستار الإصلاح!.
إنَّ الإصلاح المقبول في الإسلام هو ذلك الذي يكون في الإنسان: عقيدة، وأخلاقاً، وعبادات، ومعاملات، لتتسق مع تعاليم الإسلام في كتاب الله تعالى وسنة رسوله . ويمكن أَنْ يكون الإصلاح كذلك في النُّظُم والأساليب والسِّياسات التي يصنعها المسلم لإدارة المؤسسات المتنوعة، وذلك لتتوافق مع معايير القرآن والسُّـنَّة.
يؤكِّد الطّيباويّ هذا الفهم السَّليم للإصلاح في الإسلام قائلاً: ".. ففي المفهوم الإسلاميّ أنَّ "الإصلاح" يعني: إمَّا إعادة الإسلام إلى روحه النَّقية ومنابعه الفطريّة الأولى ، أو تنقية سلوك المسلمين ممَّا علق به من بدع متراكمة. وهنا فإنَّ الإصلاح يقع على سلوك المسلمين وليس على دينهم الذي هو الهدف للإصلاح بالمفهوم الغربيّ لمصطلح"الإصلاح"( ).
وفي سياق آخر يوضح الطّيباويّ نقض مفهوم الإصلاح "بالمعنى الغربي" لتعاليم الإسلام الصحيحة قائلاً: "فلو استثنينا كون الإسلام حضارة وثقافة، فإنّه يقوم على أمرين أساسيين:
• عقيدة أوجبتها إرادة آلهيّة، وهي لذلك ليست هدفاً للتّغيير والتَّبديل خلال واسطة بشريّة إطلاقاً.
• وشريعة مُسْتَمَدة من القرآن والسُّـنَّة النَّبويّة.
ومن ثمّ فليس هناك سلطة إسلاميّة مؤهّلة فكّرت أبداً في تغيير العقيدة، بيد أنَّ التَّطوُّر كان واسعاً خلال العصور المتتابعة، وليس في الماضي القريب فحسب، في استقراء الأحكام الفقهيّة واستنباط الحلول"( ).
إنَّ نصوص القرآن والسُّـنَّة فوق طلب الإصلاح؛ ذلك أنَّها وحيُ السَّماء جاء لإصلاح البشر قاطبة.
وعليه فإنَّ هذه النُّصوص ـ سواء أكانت من القرآن أو السُّـنَّة ـ فهي منزهَّة عن محاولات "الإصلاح" التي فعلها الغربيون في اليهوديّة والنَّصرانيّة.
وأمَّا في الغرب فقد سار اليهود والنَّصارى على وتيرة واحدة، عند حصول أيّة تعديلات "إصلاحات" في أديانهم.. فهم أصلاً لم يحافظوا على نقاء دياناتهم، بل أشبعوها تبديلاً وتغييراً، وتجرأوا على نقد كتبهم المقدّسة وزادوا في تحريفها.
ثانياً: التَّجديد:
التَّجديد في التُّراث اليهوديّ النَّصرانيّ يعني: "وجهة نظر في الدِّين مبنية على الاعتقاد بأنَّ التَّقدُّم العلميّ والثَّقافة المعاصرة يستلزمان إعادة تأويل التَّعاليم الدِّينيّة على ضوء المفاهيم الفلسفيّة والعلميّة السَّائدة، واعتبار أنَّ الدِّين صحيح ما دام لا يتعارض مع التَّطوُّر"( ).
ولهذا لمَّا قام "مارتن لوثر كنج" في ألمانيا بثورته الشَّهيرة ضدّ بعض تعاليم الكنيسة وجمودها اُعْتُبِرَ ما جاء به إصلاحاً دينياً مقبولاً، وعليه فقد تأسست الكنيسة البروتستاتينة بناء على آرائه الجديدة التي لم يقبلها الكاثوليك.
وكذلك في القرن الثَّامن عشر ظهر "مندلسون" اليهوديّ في ألمانيا بآراء جديدة تخالف بعض الدِّيانة اليهوديّة، ولكن مع ذلك تلقّى كثير من اليهود ذلك التَّحريف بالقَبول وتبعه الآلاف منهم، وفوق ذاك يجب التَّأكيد على أنَّ النَّصرانيّة واليهوديّة قد فَقَدَ كلاهما الأصل السَّماويّ لدينه، ولهذا مهما بذل اليهود والنَّصارى من جهود فإنَّما هي محاولات لمزيد من الإنحراف في تعاليمها، فضلاً عن أنَّ الدِّيانتين حتَّى لو كانتا موجودتين بلا تحريف فإنَّهما قد نُسِختا بالإسلام.
وأمَّا التَّجديد في الإسلام فيعني: "إحياء وبعث معالم الدِّين العلميّة بحفظ النُّصوص الصَّحيحة نقيّة، وتمييز ما هو من الدِّين ممَّا هو ملتبس به، وتنقيته من الإنحرافات والبدع النَّظريّة والعمليّة والسُّلوكيّة، وبعث مناهج النَّظر والاستدلال لفهم النُّصوص على ما كان عليه السَّلف الصَّالح، وبعث معالمه العمليّة بالسَّعي لتقريب واقع المجتمع المسلم في كُلّ عصر إلى المجتمع النَّموذجيّ الأوّل من خلال "وضع الحلول الإسلاميّة لكُلّ طارئ، وجعل أحكام الدِّين نافذة مهيمنة على أوجه الحياة، ووضع ضوابط لاقتباس النَّافع الصَّالح من كُلّ حضارة، على ما أبانته نصوص الكتاب والسُّـنَّة بفهم السَّلف الصَّالح"( ).
ويبدو أنَّ أصحاب الموسوعة استعانوا في تعريفهم للتَّجديد بما جاء في كتاب بسطامي سعيد عن التَّجديد، فقد نُشِرَ هذا الكتاب قبل الموسوعة، وتعريفه للتَّجديد هو: "السَّعي للتَّقريب بين واقع المجتمع المسلم في كُلّ عصر، وبين المجتمع النَّموذجيّ الأوّل الذي أنشأه الرَّسول ، وكما يكون ذلك بإحياء مفاهيم ذلك المجتمع وتصوراته للدِّين، وإحياء مناهجه في تدوين العلوم، وتكوين نظم الحياة، واقتباس النَّافع الصَّالح من كُلّ حضارة، يكون أيضاً بتصحيح الإنحرافات النَّظريّة، والفكريّة، والعمليّة، والسُّلوكيّة، وتنقية المجتمع من شوائبها"( ).
والظَّاهر أنَّ مصطلح التَّجديد في الإسلام نشأ من حديث صحيح، فقد روى
أبو داود في سننه عن أبي هريرة ، عن رسول الله ، قال: "إنّ الله يبعث لهذه الأُمَّة على رأس كُلّ مائة سنة مَنْ يُجدِّد لها دينها"( ).
مِمَّا سبق يتبيّن أنَّ الإسلام لا يقبل العبث إطلاقاً بمصدريه اللذين بهما أساس بنيانه، وهما الكتاب والسُّـنَّة، فهما وحي ربانيّ، لا يسع المسلم إلاّ أنْ يصدّق بنصوصهما الفهم الصَّحيح الذي لا يخالف اللُّغة العربيّة، ولا يخالف ما أجمع عليه علماء الأُمَّة الإسلاميّة قديماً وحديثاً.
أمَّا التَّجديد في أوضاع المسلمين ومجالات حياتهم المختلفة بما يوافق ما جاء في القرآن الكريم أو السُّـنَّة النَّبويّة الصَّحيحة ويهتدي بنورهما، فهذا تجديد مقبول نقِرّهُ؛ بل تدعو إليه تعاليم الإسلام، وهو ما حصل خلال بعض الفترات الزَّمنيّة في تاريخ الأُمَّة الإسلاميّة.
يقول المودوديّ: "التَّجديد في حقيقته هو تنقية الإسلام من كُلّ جزء من أجزاء الجاهليّة، ثُمَّ العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان"( ).
وفي سياق آخر يرى أنَّ التَّجديد "عملية كبيرة، تستلزم جملة من الأمور، منها ما يلي:
• السَّعي لإحداث الإنقلاب الفكريّ والنَّظريّ؛ أي تغيير أفكار النَّاس، وطبع عقائدهم ومشاعرهم ووجهة نظرهم الخُلُقيّة بطابع الإسلام، وإصلاح نظام التَّعليم والتَّربيّة، وإحياء العلوم والفنون الإسلاميّة، وبالجملة بعث العقليّة الإسلاميّة من جديد.
• محاولة الإصلاح العمليّ، وذلك كإبطال التَّقاليد الجاهليّة، وتزكية الأخلاق، وإشباع النفوس حُبّاً لاتباع الشَّريعة من جديد.."( ).
فالفرق كبير بين الإصلاح والتَّجديد في الإسلام، وبينه في الدّراسات الغربيّة التي تهدف إلى الخروج على تعاليم الإسلام في عقيدته وشريعته، وجعل المسلم يتنكّر لدينه الحقّ، ويتبع الغربيين في الإنحراف عن أديانهم بزعم مسايرة العصر، وعدم المصادمة مع نظراته المنفلتة من كُلّ قيد دينيّ وأخلاقيّ.
أهداف دعوة المستشرقين لإصلاح الإسلام وتجديده:
من خلال الاطّلاع على عامّة كتابات المستشرقين الذين كتبوا عن "إصلاح" الإسلام وتجديده! يظهر أنَّ هناك ثلاثة أهداف من وراء هذه الحملة التي حرصت على تشويه صورة الإسلام الحقيقية:
الهدف الأوّل: الحيلولة دون انتشار الإسلام بين الأوربيين كما انتشر بين غيرهم من الشُّعوب( ):
وذلك أنَّ الغرب ـ بخلفيته اليهوديّة النَّصرانيّة ـ من اتّصاله بالإسلام أدرك خطر الإسلام وتعاليه على اليهوديّة والنَّصرانيّة، ولهذا دأب كُتّابه منذ قرون على تشويه صورة الإسلام، بهدف وضع حاجز يمنع الرَّاغبين من بني جلدتهم في التَّعرُّف على الإسلام واعتناقه، وذلك من خلال اتّخاذ أساليب تشكيكيّة تعتم صورة الإسلام الزَّاهية على المقبلين منهم على الإسلام( ). ولهذا تبنى بعضهم أسلوب محاولة إلباس الإسلام زياً إصلاحياً، يفرغه من حقيقته الرَّبانيّة، وبالتَّالي يصد عنه المسلمين النَّاشئين في الغرب وبعض الغربيين الذين تعرّفوا على الإسلام من خلال ترجمة معاني القرآن إلى الإنجليزيّة أو الفرنسيّة
أو الألمانيّة مثلاً، ولكنهم كانوا يحتاجون لكتب تفصيليّة عن الإسلام، ولكنهم ما وجدوا مثل هذه الكتابات الصَّادرة عن الإسلام.
وهكذا تقف كتب المستشرقين التي انتهجت التَّخليط وتغييب الحقّ حجر عثرة أمام تطلعات بعض الغربيين مِمَنْ تهفو نفوسهم إلى الإسلام( ).
وإذا كانت بعض كتابات هؤلاء المستشرقين قد أثَّرت في جملة من المسلمين أنفسهم، فمن باب أَوْلَى أنْ تنجح جهودهم في التَّنفير من الإسلام داخل مجتمعاتهم.
إنَّ حال هؤلاء المستشرقين تصوره بعض الآيات القرآنية تصويراً دقيقاً؛ فهم لم يكفروا فقط؛ بل صدّوا غيرهم عن الدُّخول في هذا الدِّين الخالد بشتَّى السُّبل المعوّجة: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [إبراهيم: 2-3]، الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [مُحَمَّد: 1]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36].
فإنفاق المال لنصرة الباطل، ليس وقفاً على الاستخدام لتقوية آلات الحرب العسكريّة ووسائلها؛ بل يشمل كذلك الإنفاق في المطبوعات والمنشورات التي تبذل في التَّمويه والتَّشكيك في الإسلام الدِّين الحقّ.
الهدف الثَّاني: صرف المسلمين عن التَّمسُّك بدينهم، ومحاولة صدّهم عنه، وإخراجهم منه:
المستشرقون الذين تولوا كِبَر الدَّعوة إلى ما أسموه "إصلاح الإسلام وتجديده" يعلمون قبل الآخرين أنَّ ما يفعلونه ينقض الإسلام من قواعده.. ولهذا فهم حين يشجّعون المسلمين على هذا الإصلاح المزعوم فهم يعلمون جيِّداً أنَّ هذا يعني تخلي المسلم عن ثوابت دينه "فهم – أي المستشرقين – في كثير من الحالات ولا سيما في تعاملهم مع المثقفين المسلمين" يكتفون بزحزحة المسلم عن دينه إلى أي شيء آخر، كأنْ يصبح علمانيّاً أو تقدُّميّاً، أو من أنصار التَّغريب أو الحداثة، أو من دعاة القوميّة، أو التَّقارب بين الأديان، أو حتَّى أنْ يصبح اشتراكيّاً أو شيوعيّاً. فهذه كُلّها أفضل عند المستشرقين والمنصرين من أنْ يظلّ المسلم على الإسلام"( ).
يؤكِّد ذلك المستشرق "جب" قائلاً: "كانت النَّتيجة الخالصة لهذه الحركة التَّعليميّة "الغزو الفكريّ والغربيّ" أنَّها حرَّرت ـ بقدر ما كان لها من
تأثير ـ نزعة الشُّعوب بذلك غالباً، وهذا وحده تقريباً هو جوهر كُلّ نزعة غربيّة فعّالة في العالم الإسلاميّ"( ).
يقول "جوستاف لوبون" مفصحاً عن هذا الهدف: "والعرب بعد أنْ جاءهم رجل عظيم جمع كلمتهم المتفرقة بشريعته، لم يظهر منهم رجل عظيم آخر ليخرجهم من دائرة تلك الشَّريعة"( ).
تناقض عجيب! كيف يتساوى مَنْ جاء بالشَّريعة ووحَّد العرب، والآخر الذي ينقض ذلك؟
إنَّها الرَّغبة الدَّفينة لكثير من المستشرقين في أنْ يتزحزح المسلمون عن الالتزام بدينهم الذي جاءهم به الرَّسول .
الهدف الثَّالث: تهيئة المسلمين لتقبُّل النَّصرانيّة واعتناقها:
بعد أنْ ضعفت صلة المسلمين بدينهم يسعى الغرب النَّصرانيّ بجدّ ومثابرة أنْ يتحوّل المسلمون في خاتمة المطاف إلى النَّصرانيّة، ذلك أنَّ الغربيين جهدوا من خلال السُّبل المختلفة لتمييع الإسلام في نفوس المسلمين، شيئاً فشيئاً حتَّى قبلوا بالعلمانيّة. وبعد ذلك يرون أنَّ الخطوة التَّالية المباشرة تكون باعتناق المسلمين للنَّصرانيّة! وإذا كان الإستشراق يمثل التَّمهيد العقديّ النَّظريّ؛ فإنَّ الجانب العمليّ يكمن في "العمليّة التَّنصيريّة".
تنقل الكاتبة الأمريكيّة المسلمة "مريم جميلة" عن مجلة تايم (Time) الأمريكيّة قبل أربعين عاماً ما يلي: "إنَّ هذه الأُمَّة اليوم مسرح لنشاط تنصيريّ متصاعد أطلقت عليه جريدة مسيحيّة أمريكيّة وصف: "أكبر حركة باتّجاه المسيحيّة في الفترات الحديثة". إذ يقدّر أنَّ الكنائس الكاثولوكيّّة والبروتستانتيّة قد اكتسبت حوالي ربع مليون متنصّر خلال الأشهر العشرين التي أعقبت الثَّورة المضادة للشُّيوعيّة في "أندونسيا"، وقد اعتنق المسيحيّة في جادة الشَّرقيّة والوسطى في تلك الفترة خمسة وستون ألف شخص، بينما انضم ستة عشر ألفاً إلى الكنائس في "سومطرة" الشّماليّة، وأقيمت ثلاثون كنيسة جديدة في إقليم واحد بغرب "بورنيو" تضم خمسة آلاف شخص.."( ).
حدث مثل هذا النّشاط التَّنصيريّ في "أندونسيا" البلد المسلم الذي كان تعداد المسلمين فيه ربما يزيد عن تسعين في المائة، ولكن الجهود التَّنصيريّة منذ ذلك الوقت بذلت لتحويل المسلمين إلى النَّصرانيّة، وبالفعل تحوّل الآلاف من المسلمين إلى النَّصرانيّة، من خلال الاستجابة لِمَا كان يقوم به النَّصارى من دعم اقتصاديّ أو اجتماعيّ أو صحيّ. ومن البلاد المسلمة التي غزاها التَّنصير كذلك "بنغلاديش"، فبمجرّد انفصالها من "باكستان" داهمتها البعثات التَّنصيريّة( ).
وهكذا استطاعت النَّصرانيّة في العصر الحديث أنْ تقتحم كثيراً من حصون الإسلام في آسيا وإفريقيا، وتزحزح مئات الآلاف من المسلمين عن الارتباط الوثيق بعقيدتهم.
والطّيباويّ ـ العَالِم المسلم الذي عاش في "إنجلترا" حياته عالماً فذاً ـ أبانَ هذا الهدف بقوله: "وهناك مسألة "الإصلاح في الإسلام" التي أولع بها بعض المستشرقين... فقد نتج عن فشل الأسلوب الجدليّ اللاهوتيّ، ومن بعده الخطط التَّنصيريّة في "كشف كذب ونقائض الإسلام" أنَّهم تبنوا منهجاً جديداً يدور حول الدِّفاع عن "الإصلاح"؛ بل إنَّه أمر ذو مغزى خطير أنْ ينسحب المستشرقون اليهود والنَّصارى الكاثوليك وأسلافهم الذين اشتركوا في الغارة في وقت سابق من الميدان عموماً ويتركوه حاليّاً للمستشرقين البروتستانت الذين هم على صلة وثقى بفكرة الإصلاح في النَّصرانيّة الكاثوليكيّة.
ومنطقة "الخليج العربيّ" مثال آخر للنَّشاط التَّنصيريّ منذ سنوات طويلة، ينقل عبد المالك التّميميّ وثيقة للإرساليّة العربيّة الأمريكيّة تكشف عن حرصهم على تنصير المسلمين، جاء في خطة هذه الإرساليّة: "نحن الموقعون أدناه، قد عزمنا على القيام بعمل تبشيريّ رائد في البلاد النَّاطقة باللُّغة العربيّة وبشكل خاص من أجل المسلمين والعبيد مقرين منذ البداية بالحقائق التَّالية:
[1] الحاجة البالغة لهذا العمل التَّبشيريّ وضرورة تشجيعه في العصر الحالي.
[2] عدم وجود مثل هذا العمل التَّبشيريّ تحت إشراف مجلس الإرساليّات الأجنبيّة في الوقت الحالي.
[3] عدم قيام أي مجهود يذكر حتَّى الآن في المجالات آنفة الذَّكر( ).
ولا شك أنَّ الهدف لهذه الإرساليّة العربيّة الأمريكيّة واضح جداً، وهو تنصير الجزيرة العربيّة وإدخال أهلها في النَّصرانيّة.
وفي الوقت الرَّاهن أشير بإيجاز إلى أنَّ "العراق" بمجرّد ما احتل من قبل أمريكا قبل سنوات قليلة، سرعان ما دخلت البعثات التَّنصيريّة أرض العراق بغية تنصير المسلمين. وكذلك في السُّـودان عندما نشبت مشكلة "دارفور" قبل سنتين أيضاً سارعت الجهات التَّنصيريّة الأجنبيّة إلى الدُّخول في ذلك الإقليم المسلم بغرض التَّنصير مستغلين حاجة النَّاس إلى الطَّعام والغذاء والدَّواء. وهكذا ما إنْ تحصل أزمة في بلد مسلم إلاَّ وتسبق المنظمات التَّنصيريّة إلى ذلك البلد مجهودات المسلمين ومؤسساتهم الدَّعويّة، والرَّسميّة، والطَّوعيّة.
أساليب المستشرقين التي ترمي إلى الطَّعن في الإسلام:
سلك المستشرقون طرقاً شتَّى ليصلوا من خلالها إلى أهدافهم التي ترمي إلى الطَّعن في الإسلام بحسبانه الدِّين الحقّ الذي ختم به وحيه إلى خلقه من خلال التَّشكيك في القرآن الكريم والرَّسول الكريم  وسنته المشرَّفة. وفيما يلي أشير إلى بعض هذه الأساليب التي انتهجها المستشرقون:
[1] الحرص في كتاباتهم على إظهار الإسلام وكأنَّه قد أخذ تعاليمه من اليهوديّة والنَّصرانيّة وغيرهما:
يتحدّث عدد من المستشرقين في هذه المسألة حديث الذي يتظاهر بأنَّه يعلم حقائق تعاليم الإسلام، مع أنَّهم لا يستندون إلى دليل واحد يشهد لإدعاءاتهم الباطلة. فمثلاً، يقول المستشرق "أندرسون": "لا يمكن أنْ يكون هناك شك على أيّة صورة في أنَّ مُحَمَّداً  قد تمثَّل أفكاراً من "التَّلمود" و"الأبوكرافيا"( ).
ويزعم "جرونباوم" أنَّ الإسلام يمزج دائماً بين المقدرة على تمثيل العناصر الأجنبيّة مع درجة معيّنة، من العزوف عن الإقرار بالأصول التي استمدت منها( ).
ويزعم المستشرق "جيوم" أنَّ الإسلام صورة مشوّهة من النَّصرانيّة( ). ويتجرأ "مونتجومرى واط" متعالماً، ويطالب الإسلام بالاعتراف بالمصادر التي نقل منها – حسب إدعائه الزَّائف – أنَّ على الإسلام أنْ يُقِرّ بحقيقة أصله: ذلك التَّأثير التَّاريخيّ للتُّراث اليهوديّ النَّصرانيّ( ).
بالإشارة إلى ما سبق من نصوص، يلاحظ أنَّ الإدعاء بأنَّ الإسلام استعار "أصولاً" من الدِّيانات الأخرى تؤخذ كحقيقة مقرّرة ثابتة من قبل المستشرقين مع عجزهم التَّام عن توضيح الكيفيّة التي أخذ بها الإسلام، حسب إدعاءاتهم من اليهوديّة والنَّصرانيّة، لقد تناسوا عن عمد أنَّ التَّشابه العام الموجود بين الإسلام من جهة، وبين اليهوديّة والنَّصرانيّة من جهة أخرى، أنَّ مردّه إلى أنَّ مصدر تلك الدِّيانات واحد، فهي كُلّها جاءت من عند الله تعالى، رغم أنَّ التَّحريف اعترى كتب اليهود والنَّصارى، لكنهم يحرصون في كُلّ مناسبة على وضع الإسلام دائماً موضع المُتهَم الذي ليس له ـ في آرائهم ـ إلاّ أنْ يُقِرّ ويعترف بما لم يفعله!.
ولعلَّ من الحكمة البالغة أنَّ الله جلّ شأنه ـ الذي يعلم أزلاً مماراة أهل الكتاب وإدعاءاتهم حول الإسلام والقرآن والرَّسول  ـ أنزل القرآن الكريم وقد جاء موضّحاً في آيات كثيرة مواقف اليهود والنَّصارى، ومجادلاً لهم جدالاً يفضح ما هم فيه من باطل وبُعد عن الحق.
[2] تصنيف الإسلام إلى عدّة أنواع:
إمعاناً في النَّيل من ديانة الإسلام وتشويهاً لحقيقته يعمد عدد من المستشرقين إلى إلصاق تصورات شتَّى وتصنيفات عديدة للإسلام، فمرّة يقولون: "الإسلام الأصوليّ"، و"الإسلام التَّقليديّ"، و"الإسلام الرَّسميّ"، ومرّة أخرى يكتبون: "الإسلام الجماهيريّ"، "الإسلام الصُّوفيّ"، وثالثة يقولون: "الإسلام السِّياسيّ"، "الإسلام الاشتراكيّ"، وهكذا..( ) .
ومنهم من يجعل الإسلام نوعين: الأوّل: هادئ ومسالم، والثَّاني: حركيّ عسكريّ( ).
ومنهم مَنْ يجعله ثلاثة أنواع، يقول "ديلفرد سميث": "هنالك ثلاثة أنواع من الإسلام: ديانة القرآن، وديانة العلماء، وديانة الجماهير. وهذا النَّوع الأخير – إسلام الجماهير – إسلام خرافيّ، أسطوريّ، ضبابيّ، وتقديس أعمى. والنَّوع الثَّاني مستغرق تماماً في شريعة ما قبل العصر... ولقد تخلّصت "تركيا الكماليّة" من النَّوع الثَّاني تماماً، ولقد كان الوقت مواتياً لمحوه. ونحن بهذا قدمنا الطَّريق أمام العالم الإسلاميّ، الإسلام الذي يحتاج إلى إصلاح، وتقف تركيا في مقدمة الصُّفوف في العالم الإسلاميّ في مجال الإصلاح الدِّينيّ"( ).
إنّ هذه التَّقسيمات والتَّصنيفات لدين الإسلام من قبل هؤلاء المستشرقين ليس لها ما يدعمها من الأدلة المعتبرة؛ بل إنّ الواقع يكذبها. إنَّما هو دين واحد، وكتابه جاء مهيمناً لِمَا سبقه من وحي، ورسوله  ختم به الله تعالى جميع أنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم. وهذا الكتاب الخالد وسُـنَّة الرَّسول الخاتم  هما مصدرا هذا الدِّين، فأمَّا ما يكون من تصوُّرات النَّاس أو نظراتهم للدِّين؛ فلا يُعَدُّ ديناً في الإسلام. ولكن المشكلة تكمن في أنَّ المستشرقين عاجزون عن إدراك حقيقة الإسلام.
وأنَّ ما يفعله المسلمون لا يُعَدُّ في حدّ ذاته ديناً؛ وإنَّما محاولة واقعيّة لتطبيق تعاليم هذا الدِّين في حياتهم؛ محاولة تقترب أحياناً من مُثل الدِّين وقيمه، فإنَّ ممارسة المسلم لدينه ممارسة سليمة كانت أو خاطئة.. لا تُشكِّل في حدّ ذاتها ديناً، وإنَّما هو كسب هؤلاء وإنفعالهم بالدّين.
قال جلّ شأنه : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3]، ولا يوجد في آيات القرآن الكريم، ولا في أحاديث النَّبيّ  ما يشير إلى مثل التَّصنيفات التي (اخترعها) المستشرقون المعاصرون ليشكّكوا في الدِّين الخاتم.
[3] من خلال بثّ "العلمانيّة" في الأُمَّة الإسلاميّة:
يركّز المستشرقون كثيراً على إثارة "مسألة العلمانيّة" في الأوساط الإسلاميّة، وإظهارها بالمظهر المتحضر الذي ينبغي على المسلمين أنْ يأخذوا به، بدلاً من الالتزام بتعاليم الإسلام كما جاءت في القرآن الكريم والسُّـنَّة النَّبويّة. فهم يرون أنَّ انتهاج "العلمانيّة" أسرع طريق للتَّخلُّص من الإسلام "الرَّبانيّ"، وهو بالتَّالي يحقق لهم مايسمونه بـ "إصلاح الإسلام". وفي تقديرهم أنَّ "العلمانيّة" إذا انتشرت وسط المسلمين؛ فسرعان ما تبدأ المجتمعات المسلمة في الذَّوبان، ومن ثمَّ يسهل تفكُّك هذه المجتمعات لتكون جاهزة لقبول الفكر التَّنصيريّ( ).
يُقال مثل هذا الكلام وفي أذهانهم تجربة "تركيا" التي حينما أدخل " أتاتورك" العلمانيّة قسراً في تلك البلاد، ومن خلال استخدام الجيش، لم تمض سنوات حتَّى قُضي على الكثير من المظاهر الإسلاميّة في "تركيا".. ولا يزال هذا البلد – الذي قاد الأُمَّة الإسلاميّة على مدى ثلاثة قرون قبيل إنسلاخه من الإسلام ـ مكبلاً بقيود العلمانيّة، ويلهث وراء سراب الوحدة الأوربيّة، التي لم يُسمح له بعد بعضويتها.
ويزعم "فليب حتى" أنَّ العلمانيّة يمكن أنْ تحدث في العالم الإسلاميّ من خلال إقصائها لـ "مبدأ القضاء والقدر" في الإسلام، المستند بالضَّرورة إلى قدرة الله تعالى، وإرادته، وعلمه، وحكمه.
إنَّه يريدها علمانيّة كافرة بالله تعالى، لا مجرّد علمانيّة تُقِرّ بوجود الله تعالى، ولكنها لا تُطبق شرع الله تبارك وتعالى.
"التَّحديث على المستوى العقليّ الرُّوحيّ للمسلمين يتطلَّب "العلمانيّة"، "العلمانيّة" التي تعني أكثر من الفصل بين الدَّولة والكنيسة، إنَّها تُحِل تفسير الأحداث التَّاريخيّة والوقائع الجارية للفرد تفسيراً عقلانياً مؤسساً على القوى والعوامل الماديّة والنَّفسيّة محل تفسيرها بالعناية الإلهيّة. ومن النَّادر أنْ تصادف إصداراً لصحيفة عربيّة سيّارة تفتقر إلى تكرار ذكر اسم الله تعالى في مصدر تقاريرها: عن الولادة والموت، عن الصِّحة والمرض، عن الحظّ والتَّعاسة، عن النَّجاح والفشل، إنَّه يقيه من التَّفكير البالي"( ).
وإذا كان المستشرق "كراج" يرى أنَّ نجاح التَّنصير في بلاد المسلمين يعتمد أساساً على نشر "العلمانيّة" فيها لاقتحام حصون المسلمين، وإحداث التَّفكُّك الثَّقافيّ والاجتماعيّ في مجتمعاتهم؛ فإنّ "فيليب حتى" لا يقنع بذلك؛ بل يريدها علمانيّة ملحدة، تقصي حتَّى الإيمان بالله تعالى الذي لا ترفضه إلاّ نفوس مريضة شاذة حائرة.
والمستشرق "كمجيان" لا يختلف عمن سبقوه في الإشادة بالمسلمين الذين تقبّلوا "العلمانيّة"، ويصفهم بأنَّهم: "روّاد التَّحديث والإصلاح"، بينما يصف المسلمين المعتزين بالانتماء إلى دينهم والملتزمين بتعاليمه بأنَّهم: "أصوليون متطرفون". فهو يقول: "كان الصِّدام بين دعاة العصريّة، وبين المحافظين من المسلمين سمة دائمة في المجتمع الإسلاميّ المعاصر. فبينما يريد دعاة "التَّحديث" إصلاح الإسلام وتكييفه طبقاً للحياة المعاصرة؛ يتشبث المحافظون بالمبادئ الإسلاميّة التَّقليديّة، ويرفضون التَّأثيرات الغربيّة وغيرها. وبهذا المعنى يكون "الأصوليون" محافظين فعّالين مع ميل إلى التَّطرُّف"( ).
ما أجرأ هؤلاء المستشرقين! يُسبغون على المسلمين المنفلتين من دينهم صفات المدح، ويصفون أهل الالتزام الصَّادق بكُلّ ما هو مذموم، وهم الغرباء عن هذا الدِّين الذي لم يدركوا كنهه بعد ولا تعاليمه. إنَّهم يظهرون بمظهر الدَّارس المحلل النَّزيه لهذا الإسلام العظيم، وهم في الحقيقة ما يزالون يجهلون مبادئه وقِيمَه وتعاليمَه التي تأبى اقتراحاتهم الفجّة، وترفض مدحهم وذمهم على السَّواء.
[4] التَّشكيك في قدسيّة القرآن الكريم والسُّـنَّة النَّبويّة:
كان المستشرقون في العقود الماضية يكرّرون الإدّعاء بأنّ القرآن ليس هو كلام الله تعالى الذي أنزله على رسوله ، وكانوا كذلك يُشكّكون في صحة رسالة النَّبيّ ، ولكن منذ وقت قريب أخذوا يضيفون إلى تلك الفرية أمراً آخر، وهو أنَّهم أصبحوا يتزينون بزي النَّاصح الشَّفوق، فكتب بعضهم ينصح المسلمين أنَّهم إذا أرادوا إصلاح دينهم، واللّحاق بركب الشُّعوب الغربيّة في الحضارة الماديّة، ما عليهم إلاّ أنْ ينقلبوا على معتقداتهم الرَّاسخة في قدسيّة القرآن الكريم والسُّـنَّة النَّبويّة، ويعملوا فيهما مبضع الطَّعن والنَّقض والنَّقد، كما فعل علماؤهم بالعهد القديم.
فمثلاً "جانسن" في كتابه: "الإسلام الحركيّ أوالعسكريّ" يزعم أنَّه يريد أنْ يقدم النُّصح للمسلمين لكي يتدراكوا "إصلاح الإسلام" حتَّى لا يتخلّفوا عن ركب المدنيّة الحديثة، ويقترح عليهم أنْ يجتثوا القاعدة الصُّلبة التي يقف عليها "الإسلام الحركيّ" وهي تتمثّل في اعتقاد المسلمين الثَّابت في أنَّ القرآن الكريم كُلّه كلام الله تعالى، وأنَّ رسوله  هو الرَّسول الخاتم لرسالات السَّماء، ويطلب منهم أنْ يتخلّصوا من هذا "الاعتقاد المتشدِّد" ـ في زعمه ـ. ويتجرأوا على نقد القرآن الكريم، وعلى التَّطاول على سيِّد الرُّسل والنَّبيين، وسُنَّته الشَّريفة. ويقول: "بدون مثل هذا العمل التَّجديديّ، لن يستطيع المسلمون أنْ يصلحوا دينهم"( ).
إنّ من العجب حقّاً أنْ يتطاول مثل هذا الغريب، ويزعم أنَّه يسدي للمسلمين معروفاً حينما يقترح لهم العمل بما ينقض إسلامهم مرّة واحدة. ذلك أنَّ المسلم إذا تجرّأ ونقد شيئاً من كتاب الله تعالى أو تناول شخصيّة الرَّسول  بما لا يليق به ، فقد خرج من الإسلام وأصبح مرتداً، وكان حاله أسوأ من حال الكافر الجاهل بحقيقة الإسلام؛ لأنَّ المسلم حينذاك يكون قد كفر بعد أنْ عرف الإسلام وتعاليمه، فإذا انقلب عليها بعد ذلك فإنَّما ينقلب على نفسه، وعلى فطرته التي تلبّست بالإسلام زمناً طويلاً.
إنَّ المسلم البصير ليس في حاجة إلى نصيحة شخص غير مسلم، لم يتذوق بعد حلاوة الإيمان، ولذلك فكلام هذا المستشرق رُدّ عليه، وكيده في تباب، والله حافظ دينه وكتابه ورسوله .
[5] من خلال مدح التَّصوُّف المنحرف:
التَّصوُّف المعتدل هو "أنْ يزهد المسلم في زخرف الدُّنيا، ويكره الإنغماس في ذلك، مع قيامه بواجباته كُلّها، ودون أنْ يتخلّى عن شيء من ذلك. غير أنَّ هناك "التَّصوُّف الحلوليّ" الذي يهدف إلى إخداع المسلم من قيمه الدِّينيّة الفرديّة والجماعيّة ويجعله يسقط في مستنقع الحلول والاتّحاد المزعوم مع الخالق جلّ وعلا، بحيث يفنى أهل هذا التَّصوُّف الغال في حُبّ الله تعالى، ذلك الحُبّ الذي تسقط معه سائر التَّكاليف الرَّبانيّة.
إنَّ المستشرقين يريدون إسلاماً ليس له علاقة بالدَّولة، ولا بالسِّيادة العامّة، ولا بالجهاد، ولا يمنع المسلم من الزَّواج بغير المسلم، ويمنع التَّعدُّد، ولا يُفرِّق في الميراث بين الرَّجل والمرأة( ).
يقول المستشرق "نيكسون" مشمئزاً من الإسلام الحقّ، ومادحاً إسلام "التَّصوُّف الإلحاديّ": "يبدأ القرآن بفكرة الله (الواحد الصمد)، الإله (القادر) الذي تجرَّد عن المشاعر والميول البشريّة... وهو (سيِّد عباده) لا والد أبنائه و(القاضي) الذي ينزل بالآثمين عدلاً رادعاً، ويبسط رحمته على مَنْ يتقون غضبه بالتَّوبة والخضوع ويواصلون أعمال البرّ... إنَّه إله "خوف" أكثر منه " إله حُبّ". ولذلك فإنَّ "التَّفكير الإسلاميّ" وقد نزعته الرّؤى المخيفة لِـ (غضب الله) الذي سينزل بالمذنبين قد تنبّه في بطء وعسرٍ لأهمية هذه (الأفكار الحُرَّة) القائمة على (الحُبّ) و(الفناء) في الله"( ).
[6] من خلال إثارة الخلافات العقدية والفكرية التي حصلت في تاريخ المسلمين قديماً:
وهم يركّزون بصفة خاصّة على الفِرَق المارقة عن الإسلام قبل فِرَق الباطنيّة، من: "قرامطة" و"إسماعيليّة"، و"ماديانيّة"، و"بهائيّة". فالمستشرقون الذين عنوا بدراسة الفِرَق في تاريخ المسلمين استهوتهم تلك الفِرَق التي خالفت الأصول العقديّة التي التزم بها أهل السُّـنَّة والجماعة، وآثروا الوقوف إلى جانب انحرافات الفِرَق المارقة بزعم اتّساقها مع حُرِّيَّة العقل الإنسانيّ، وراقت لهم آراء هذه الفِرَق الباطنيّة التي تعتقد أفكار "الحلول" و"الاتّحاد" و"وحدة الوجود" وبعض المستشرقين كتبوا عن الفِرَق ضمن كتاباتهم العامّة عن الإسلام( ). وآخرون أفردوا دراسات بكاملها لدراسة مثل هذه الفِرَق( ).
ومن جهة أخرى نراهم يوجّهون سهام نقدهم إلى الجماعات الإسلاميّة التي تدعو إلى الإسلام الصَّافي من البدع والإنحرافات، مثل: دعوة الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب، والسّنوسيّة، وغيرها.
فيصفونها بالتَّزمُّت، والجمود، والتَّأخُّر( ). وهذا الأسلوب الماكر يهدف في النّهاية إلى نقد تعاليم الإسلام الصَّحيحة التي تلتزم بها هذه الجماعات السَّلفيّة.
الخــاتمـــة:
في الصَّفحات السَّابقة ناقشنا مفهوم "الإصلاح والتَّجديد في الإسلام" بين المستشرقين والمسلمين. ثُمَّ تطرّقنا بعد ذلك إلى الحديث عن أهداف المستشرقين من دعوتهم إلى "إصلاح الإسلام وتجديده"، وأوضحنا عدداً من الأساليب التي سار عليها المستشرقون للوصول إلى أهدافهم.
ويمكن القول إنّ أبرز نتائج هذا البحث كما يلي :
[1] هناك اختلاف جذريّ في مفهوم "الإصلاح والتَّجديد" بين علماء المسلمين وبين المستشرقين، فبينما يرى علماء الأُمَّة أنَّ ذلك يتعلّق بفكر المسلمين وسلوكهم وممارستهم، فإنَّ المستشرقون يرونه إصلاحاً يطال الأصول (القرآن الكريم والسُّـنَّة النَّبويّة).
[2] ينطلق المستشرقون في هجومهم على الإسلام من أهداف ثلاثة، هي:
[أ] صدّ بني جلدتهم عن الاستماع إلى الإسلام، الدّين الحقّ.
[ب] زحزحة المسلمين عن دينهم من خلال أساليب شتَّى.
[ج] السَّعي إلى جعل المسلمين يعتنقون النَّصرانيّة.
[3] سلك المستشرقون في سبيل الحصول على أهدافهم جملة من الأساليب، منها ما يلي: التَّشكيك في القرآن الكريم والسُّـنَّة الشَّريفة، الإدّعاء بأنَّ الإسلام استعار بعض تعاليمه من اليهوديّة والنَّصرانيّة، ومثل تصنيفهم للإسلام بعدّة تصنيفات، وكدعوتهم للعلمانيّة، ومدحههم للجماعات المنحرفة في تاريخ المسلمين.
[4] الظَّاهر أنَّ أهل الاستشراق استقروا على طريقة: "الغزو المخادع"، الذي يتزيّن بـ "الإصلاح والتَّجديد"، بدلاً من مهاجمة الإسلام مباشرة في عقيدته وشريعته.
{