جعل الله تعالى من العبادة الأس الكوني الذي خلقت من اجله المخلوقات، ووأرساها ركناً لتجليات أسمائه الحسنى على العباد فقال في كتابه العزيز وَمَا خَلقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلا ليَعْبُدُونِ [1].وإذا طالعنا معاني العبادة في قواميس اللغة والاصطلاح فإننا سنقف امام نوعين [2]:
1. عبادة تسخير أرسى الله تعالى حكمها وجعلها سنة كونية تسري في جميع المفردات الكونية التي تسبّح لجلاله ، كما ورد في قوله تعالى : وَلهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ [3].2. عبادة اختيار أمر الله تعالى بها في محكم كتابه، واوجبها على عباده كما في قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ وَالذِينَ مِنْ قَبْلكُمْ لعَلكُمْ تَتَّقُونَ [4]قد عالج السادة الصوفية مسألة العبادة من خلال منظور جديد لعب الذوق الصوفي، دوراً مهماً في زيادة خصوبة دلالاتها، وأضفى عليها معاني جديدة تزيد من مراتب القرب بين العبد المستغرق بعبوديته، والخالق الذي تفرض عزّته وجلاله دوام الخضوع والانقياد.وقد برزت في هذا المضمار ثلاثة اصطلاحات أضفى الصوفية عليها معان مستمدة من آثار معرفتهم وذوقهم السليم. فالبدايات لديهم عبادة لمن عنده علم اليقين ؛ ثم عبودية لمن له عين اليقين ؛ ثم عبودة لمن له حق اليقين. ولهذا قيل: العبادة للعوام من المؤمنين أصحاب المجاهدات، والعبودية للخواص من أرباب المكابدات، والعبودة لخواص الخواص من اهل المشاهدات والتجليات.فمن وهب نفسه لمرضاة الله تعالى ولم يدخر شيئاً منها كان من أصحاب العبادة، ومن لم يضن بقلبه فأخرج منه السوى وفتح لب الفؤاد لخالقه فهو من أصحاب العبودية. أما من لم يبخل بروحه، والتفت بكليته الى ربه، وانمحقت ذاته فهو من أصحاب العبودة.والعبودية لدى الصوفي مقام يفرض عليه القيام بحقوق الطاعات، ومعانقة الأوامر ومفارقة المناهى ، مع دوام التبرؤ من الحول والقوة [5].ولا ينال المؤمن مقام العبودية الحقة حتى يكون قلبه خالياً من جميع ما سوى الله تعالى، فلا يكاد ينظر شيئاً سوى آثار أسمائه وصفات ذاته العلية. من اجل هذا لم يسم الله تعالى من المخلوقات باسم احسن من اسم العبد، فسمى بهذا الاسم ملائكته بقوله: بَل عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [6] ، وانبيائه بقوله : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا [7] ، وخيرة عباده بقوله : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ [8].ومصداق ذلك ما روي عن أبى على الدقاق ( ت ـ 410هـ) أنه قال : " ليس شئ أشرف من العبودية ، ولا اسم أتم للمؤمن من الاسم له بالعبودية ، ولذلك قال سبحانه فى وصف النبى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وكان أشرف أوقاته فى الدنيا: سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلا مِنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ[9] فلو كان اسم أجل من العبودية لسماه به عندما اختاره لقربه في جنة المأوى [10].وقد نحت الشيخ الأكبر اصطلاح العبادلة من لفظة العبودية، فجعلهم من أرباب التجليات الأسمائية ، حيث يكون شهود كل عبد من العباد من خلال تجليات الاسم الالهي المتوجه عليه. وعلى هذا الأساس فإن كل من كان شهوده للحق تعالى ، من حيث اسم ما من أسمائه الحسنى ، وتحقق له كمال التخلق بمقتضى ذلك الإسم ، فإنه ينسب عندهم لعبودية ذلك الإسم ، فيقال : عبد القيوم مثلا ، إذا تخلق العبد بالاسم القيوم على مقتضى ما يليق بمقام عبوديته تجلى له الحق فى قيوميته ، ويقال : عبد المنعم إذا تحقق العبد بتخلقه بهذا الإسم ، لتجلى الحق له تعالى فى أنعامه وعبد الرحمن إذا تجلى الحق له في رحمانيته [11].....
الهوامش :[1] . سورة الذاريات : 56.[2] . أنظر : القاموس المحيط :378 .[3] . الأنبياء : 19.[4] . سورة البقرة : 21.[5] . الرسالة القشيرية 2: 429.[6] . سورة الأنبياء : 26.[7] . سورة ص : 30.[8] . سورة الحجر : 99.[9] . سورة الاسراء : 1.[10] . لطائف الإعلام 2 : 104.[11] . من يريد الاستزادة فعليه مراجعة رسالة العبادلة للشيخ الأكبر قدّس سره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق