الثورة هي اللحظة الاستراتيجية في تاريخ الشعوب. والثورات متنوعة.. ثمة ثورة معرفية، وثورة سياسية،وثورة صناعية، وثورة تكنلولوجية..... ما يهمنا هنا هو الوقوف على ثورة الشعوب السياسية، والتي يكمن وراء تأجيجها وتثويرها في أوساط الشعوب الحية، هو الظلم السياسي، وفقدان الحرية، وإهدار الكرامة الانسانية، وبالتالي ما ينتج عن ذلك من قهر اقتصادي، وغبن اجتماعي، وتمايز طبقي.
وما أن تنهض الشعوب ضد الاستبداد السياسي ومتقتضياته، حتى يبرز صنفين من الناس من داخل جسم الثورة أو من خارجها في غفلة عن وعي الشعوب بخطورة هذين الصنفين، صنف النفعيين، وصنف المندسين. حيث يقوم كل من هذين الصنفين بدور المجهز والمضيع والسارق لأهداف ثورة الشعوب الطيبة، وذلك برفعه ذات الشعارات، أوباعتماده لمبدأ التسويف، والاقرار بالاهداف على الورق، واستخدام العصا عند اللزوم.
واللافت للنظر أن هذين الصنفين( النفعي والمندس) يمارسان أعمالهما في تضييع بوصلة الثورة بنفس طويل، وحضور دائم بالروح الوطنية، والمحافظة على مكاسب البلاد، أو بظهور مستمر في ثوب الطهر والتقوى، للوصول بجماهير الثورة إلى القناعة التامة بأن ثورتهم تحققت، وذلك بتغير الحاكم السابق الذي ينتمى إلى الطبقة الارسقراطية بحاكم ينتمي إلى ذات الاستبداد، بينما يبقى النظام السابق بهياكله وكوادره ورؤاه الاستراتيجية.
نحاول عرض بعض صور ذينك الصنفين ومحاولتهما الالتفافية على ثورة الشعوب في المنطقة العربية، وذلك من خلال الثورة العربية الأولى ضد الظلم والاستبداد التركية زمن الخلافة العثمانية، وكانت هذه الثورة العربية بقيادة الشريف حسين (1917) أمير الحجاز، والذي ظهر في أول أمره بثوب الوطنية مناديا بالعروبة واستقلال الدول العربية كسوريا والعراق والحجاز ونجد. ثم تدثر بلباس التقوى والقرابة من رسول الله تحت شعار آل البيت والأئمة من قريش، ثم ما لبث أن انتهى أمر الثورة العربية بالحصول على دولتين مستقلتين لأبنائه فيصل، وعبدالله، مقابل تفكيك جسم الخلافة التركية لصالح القوى الغربية، واسكات الشعوب الثائرة، وقبولها بالعيش تحت سطوة الاستبداد العربي بدلا عن الاستبداد التركي.
فهذا نموذج من نماذج المتسلقين على ثورات الشعوب المقهورة، وتاريخ منطقتنا في هذا المضمار له السبق في عمليات الالتفاف على الثورات بثوب الوطنية تارة والدينية تارة أخرى من أجل سرقة جهود الطيبين وتجييرها لصالح الأسر والبيوتات والاحزاب.
ولعل من المناسبة أخذ عينة من ثورات المنطقة العربية المعاصرة، ولتكن ثورة الشعب التونسي والمصري، ومعلوم أن وقود هاتين الثورتين الشعبيتين هم الشباب، والمحرومين من العيش الكريم، بمعزل عن الأدلجة وحمل اللافتات والشعارات المستهلك؛ كالشعارالديني( الإسلام هو الحل )، أو الشعار العلماني( الديمقراطية هي الحل ). ولكن ما أن استوت الثورة عن ساقها حتى ظهر منطق الالتفاف على سطح الإعلام من خلال الحوار مع المستبد أو محاولة المشاركة في تشكيل حكومة جديدة بقيادة العسكر القديم
ويبدو أن تحرك هؤلاء المتسلقين –طبعا- في إطار التحليل السياسي بعيدا عن النوايا، ما هو إلا عمل سياسي لإستيعاب أكبر عدد من الجمهور لكي يكون الزاد والقوة في مرحلة التفاوض والحوار مع النظام الآئل للسقوط. وهذه الركيزة تعد الأهم في عملية الالتفاف وسرقة ثورة المقهورين، بمعنى أن النظام الآئل للسقوط توجد لديه فرصة لبقاء نظامه وهياكله ورموزه ولكن بأجراء بعض العمليات التجميلية كتعديل في بعض مواد الدستور، وتغيير بعض الشخصيات الرئيسة في النظام السابق. يتم هذا في طور المرحلة الانتقالية، أما ما بعد المرحلة الانتقالية فرمز النظام الجديد بحاجة ماسة إلى أرضية شعبية واسعة تحقق له الشرعية الديمقراطية من خلال الحصول على أكبر قدر من الاصوات الناخبين.
وهنا يكمن دور الوسطاء (المتسلقين) من النفعيين أو المندسيين لتحقيق حكم المستبد في الاستمرار بطريقة سلفه، وذلك من خلال تأثير المتسلقين على أكبر شريحة من الجمهور خاصة من ذوي الطبقة الوسطى والدنيا. وبالتالي الاتصال بهؤلاء ومحاورتهم والتنسيق معهم ضرورة تقتضيها المرحلة وواجب سياسي لا مفر من التلبس به لحين، وذلك من باب الظهور للناس بصورة مغايرة لصورة النظام السابق المستبد، وبروح ديمقراطية، تستجيب ظاهريا لمتطلبات الثائرين من الشعب، وترسل بذلك رسالة إلى القوى الدولية والإقليمية الداعمة مفادها أن الاوضاع تحت السيطرة.
وهذا ما يقوم به حاليا عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات، والمرشح الحقيقي من قبل اسرائيل، والمكلف من قبل المستبد حسني مبارك لإدراة شؤون البلاد في مرحلة الازمة. فالاتصال بمن له مقدرة تأثيرية في الجمهور لتقاسم المصالح بين النظام والاحزاب والقيادات الاجتماعية، وفتح مجالات الحوار، وفضاءات التشاور، ضرورة تقتضيها اللعبة السياسية. فالنسبة للمستبد لابد له من الامساك بزمام الأمور والتشبث بالسلطة إما بطريقة الوسطاء أو بطريقة العسكر، وهنا تكمن أهمية وعي الشعوب ويقظتها في تفويت الفرص على المستبد.
ولعل ما يحدث في تونس الخضراء، بعد ثورتها بقيادة بوعزيزي، وهروب بن علي، وتشكيل حكومة تونسية جديدة خلفا لابن علي المستبد بقيادة الحرس القديم المتمثلة في المبزع والغنوشي، والتي تضمن في تشكيلتها مجموعة من حاملي الشعارات المؤدلجة. وهذه الصورة التونسية والمصرية ودور المتسليقن فيها لا يبعد عن ما جرى في الاردن هذا اليوم، فبعد خروج الناس إلى الشوارع من أجل غلاء المعيشة، وصعوبة الحياة الكريمة، وعدم الحصول على فرص عمل. قام النظام الملكي المستبد بحل الحكومة القديمة وتشكيل حكومة جديدة برئاسة معروف البخيت والذي بدوره شكلها من خلال حاملي شعارات المقهورين من الاسلاميين والليبراليين.
وهنا لابد من تسجيل بعض الملاحظات على الانتفاضات الشعبية في المنطقة، منها، غياب الوعي بأهمية ثقافة الحوار والنقاش وقبول الآخر على المستوى الفردي والعائلي والاجتماعي، ولهذا تختزال ثوراثنا فلسفة الديمقراطية في صناديق الانتخابات، بمعزل عن العقل والفكر الديمقراطي، وبالتالي سيطرة ثقافة تبسيط الأمور لدى الناس؛ فمثلا تغيير النظام وفلسفة الحكم تساوي عند البعض كعملية تغير الملابس أو السيارة. كذلك اختزال مشاكل البلاد في إقالة شخص الحاكم. وعلى الرغم من هذه الملاحظات فأنا مع الثورة ضد الاستبداد والتخلف والقهر والغبن، وضد المتسلقين أيا كان انتمائهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق